وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا
يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
(58)
وقوله: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي: والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا، كما قال: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [ آل عمران:37 ]
( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا ) قال مجاهد وغيره: كالسباخ ونحوها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة عن بُرَيد
بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث
الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب
الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا
وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت
فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلم وَعَلَّم،
ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به".
رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به
لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ
(59) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62)
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ
منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم السلام، الأول فالأولَ، فابتدأ
بذكر نوح، عليه السلام، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه
السلام، وهو: نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ -وهو إدريس [النبي] عليه السلام -فيما، يزعمون، وهو أول من خط بالقلم -ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه السلام.
هكذا نسبه [محمد] بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه.
وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام [قاله عبد الله ابن عباس]
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: وكان أول ما عبدت
الأصنام، أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك
فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان، جعلوا تلك
الصور أجسادًا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها
بأسماء أولئك الصالحين "ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا". فلما
تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة -رسوله نوحا يأمرهم
بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: ( يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أي: من عذاب يوم القيامة إنْ
لقيتم الله وأنتم مشركون به ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ ) أي: الجمهور
والسادة والقادة والكبراء منهم: ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )
أي: في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا .
وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [ المطففين:32 ]، وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ
[ الأحقاف:11 ] إلى غير ذلك من الآيات.
( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: ما أنا ضال، ولكن أنا رسول
من رب كل شيء ومليكه، ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وهذا شأن الرسول، أن يكون
بليغا فصيحا ناصحا بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما
جاء في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة،
وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: "أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم
قائلون؟" قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء
وينكتُها عليهم ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد"
أَوَعَجِبْتُمْ
أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(63) فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ
(64)
يقول تعالى إخبارًا عن نوح [عليه السلام]
أنه قال لقومه: ( أَوَعَجِبْتُمْ [ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ] )
أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس بعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة
بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، (
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )
قال الله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ ) أي: فتمادوا
على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه تعالى في
موضع آخر، ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) وهي
السفينة، كما قال: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [ العنكبوت:15 ]( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) كما قال: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [ نوح:25 ]
وقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) أي: عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح [عليه االسلام] بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.
قال مالك، عن زيد بن أسلم: كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما عذب الله قوم نوح [عليه السلام] إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.
وقال ابن وَهْب: بلغني عن ابن عباس: أنه نجا مع نوح [عليه السلام] في السفينة ثمانون رجلا أحدهم "جُرْهم"، وكان لسانه عربيا.
رواهن ابن أبي حاتم. وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
يقول تعالى: وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا.
قال محمد بن إسحاق: هم [من] ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
قلت: وهؤلاء هم عاد الأولى، الذين ذكرهم الله [تعالى] وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [ الفجر:6-8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا
عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
[ فصلت:15 ] .
وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل.

قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، سمعت علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]
يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ
وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير
المؤمنين. والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه. قال: لا ولكني قد حدِّثتُ
عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود، عليه
السلام.
رواه ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، وأن هودا، عليه السلام، دفن هناك، وقد كان من أشرف قومه نسبا؛ لأن الرسل [صلوات الله عليهم]
إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم
شُدِّد على قلوبهم، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق؛ ولهذا دعاهم هود،
عليه السلام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه.
( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) -والملأ هم:
الجمهور والسادة والقادة منهم -: ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ
وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أي: في ضلالة حيث دعوتنا إلى
ترك عبادة الأصنام، والإقبال إلى عبادة الله وحده [لا شريك له] كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد ( فقالوا ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ] [ ص : 5 ] .
( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) أي: لست كما تزعمون، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل
شيء، فهو رب كل شيء ومليكه